الحمد لله إذ بلّغنا رمضان غير سقماء ولا محرومين، ولا مرتدين عن ديننا ولا مغيرين ولا مبدلين، نحمده بأن كنا عبيداً مملوكين له، له الحجة علينا ولا حجة عليه، لا نقدر أن نأخذ إلا ما أعطانا، ولا أن نتقي إلا ما وقانا، نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه، له الحمد كالذي يقول، ومثل ما يقول وخيراً مما نقول، له الحمد كله ويبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه المصير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى من اتبع هداه إلى يوم الدين
أما بعد:
لقد جاءكم شهر رمضان محيياً بتحايا، تضفي إليه من الجلال جلالاً، ومن البهاء بهاءً، أتاكم رمضان يحمل الجوع والعطش، ترى الطعام أمامك تشتهيه نفسُك، تصلُ إليه يدكُ، ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويُلهبُ الظمأ جوفك، والماءُ من حولك، لا تقدر على الارتواء منه، ويأخذ النعاس بلبك ويداعبُ النوم جفنيك، ويأتي رمضان ليوقظك لسحورك، إنها ترادف حلقات الصبر والمصابرة، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: « الصوم نصف الصبر » [رواه الترمذي، وقال حديث حسن].
فيا سُعد الصائم، كيف ينال الأجر في ظمئه وجوعه عند من لا يظلم مثقال ذرة: { ذلك بأنَّهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكُفَّار ولا ينالون من عَدُوٍّ نَّيلاً إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالح إنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين } [التوبة:120].
لقد جاء رمضان، لينيب الناس فيه إلى ربهم، ويؤمُّوا بيوته، ليعمروها بالتراويح والذكر، تمتلىء بهم المساجد، متعبدين أو متعلمين، والمساجدُ في الأقطار، حفَّلٌ بالعباد صفاً واحداً، متراصة أقدامهم وجباههم على الأرض، سواء الغني والفقير، والوضيع والغطريف، الصعلوك والوزير والأمير، يذلون لله فيعطيهم الله بهذه الذلة عزة على الناس كلهم، إن حَسُن القصد واستُصوب العمل، ولا غرو أيها المسلمون، إن من ذلّ لله أعزّه الله، ومن كان لله عبداً مطيعاً جعله الله بين الناس سيداً، ومن كان مع الله تبارك وتعالى باتباع شرعه والوقوف عند أمره ونهيه كان الله معه بالنصرة والتوفيق والغفران.
وبذلك عباد الله ساد أجدادُنا الناس، وحازوا المجد من أطرافه، وأقاموا دولة ما عرف التاريخ أنبل منها ولا أفضل، ولا أكرم ولا أعدل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، نعم، لم يكونوا خواء، بل إنهم يُذكرون إذا ذُكر رمضان، ويُذكر رمضان إذا ذُكروا، فيه نُزل القرآن على سيد البشر صلى الله عليه وسلم وهو لعمر الله حياة الناس عند الموت، ونورهم عند الظلمة.
شهر الانتصارات والفتوحات:
وفي رمضان نصر الله تبارك وتعالى المؤمنين ببدر وهم أذلة، وسماه يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وفي رمضان فُتحت مكة لنبينا صلى الله عليه وسلم فطهرها من وساوس الوثنية، وأزاح منها كل قوى التقهقر والشرك، وفي رمضان يفتح الله تعالى على خالد بن الوليد في اليرموك وعلى سعد في القادسية، وعلى طارق بن زياد في الأندلس عند نهر لكة، وعلى الملك قطز والظاهر بيبرس ضد جحافل التتار فقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين، وكذا حطين وجلولاء، ورمضان فيه وفيه وفيه، هذا هو رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم وعلو الروح، وعظمة النفس ورضاء الله قبل كل شيء وبعده.
شهر الحب والوئام:
رمضان أيها الناس شهر الحب والوئام فكونوا فيه أوسع صدراً، وأندى لساناً وأبعد عن المخاصمة والشر، وإذا رأيتم من أهليكم زلةً فيه فاحتملوها، وإن وجدتم فُرجةً فسدوها واصبروا عليها، وإن بدأكم أحد بالخصام فلا تقابلوه بمثله، بل ليقل أحدكم: إني صائم، وإلا فكيف يرجو من يمقت ذلك ن يكون له ثواب الصائمين، وهو قد صام عن الطعام الحلال، وأفطر على ما سواه من الحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجةً في أن يدع طعامه وشرابه » [رواه البخاري].
وإن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادتا أن تموتان من العطش فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض ثم ذُكرتا له فدعاهما فأمرهما أن يتقيأ فقاءتا ملء قدح قيحاً وصديداً ولحماً عبيطاً، فقال النبي صلى الله علبيه وسلم: « إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس » [رواه الإمام أحمد].
فلا إله إلا الله ما أعظم هذا الجرم، ولا إله إلا الله ما أعظمه من انتهاك لحرمة الشهر، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
الناس في رمضان:
الناس في رمضان أشتات غير متفقين عن اليمين وعن الشمال عزين، فمن الناس من لا يرى في رمضان أكثر من كونه حرماناً لا فائدة منه، وتقليداً تعبدياً، لا مبرر له، فهم عازمون على الإفطار فيه، مجاهرين بذلك أو مسرين، فهؤلاء حمقى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً، وظنوا أن في الصوم كبتاً للحرية، التي تعني بداهة: انطلاق المرء المحموم وراء أهوائه وشهواته، يُعبُّ منها دون حد أو قيد، كلا عباد الله فإن هذه حريةٌ مغشوشة، وما هي إلا الفوضى أولاً، والعبودية الذليلة للجسد آخراً.
والحق عباد الله أن الحرية المادية هي تمام العبودية، وتحقيق العبودية لله وحده هي تمام الحرية والمسلم الصادق عباد الله إنما هو حُرُّ الروح ولو أطبقت عليه الجدران، أو عاش في أرض قفر، هو حرٌّ ولو كُبِّل بالحديد وجلد بالسياط، وهذه لعمر الله هي الحرية الحقة، التي تليق بكرامة بني آدم، وأين منها حرية الأشباح والجسوم الخاوية:
{ أفَمَن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلالٍ مُّبين } [الزمر:22].
وإن من الناس عباد الله من لا يرى في رمضان إلا جوعاً لا تتحمله أعصاب بطنه، وعطشاً لا تقوى عليه مجاري عروقه، قد سئم ذكر رمضان، دخولهُ ثقل عليه، وتمامه عناء ووثاقاً مشدوداً أمام رغباته وشهواته، فهو يصومه على مضض فهذا وأمثاله ممن فقدوا لذة الإيمان وسرور الصالحين بالتسليم للخالق جلّ شأنه في أمره وحكمه: { وربُّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سُبحان الله وتعالى عمّا يُشركون } [القصص: 68].
ولا يسعنا إلا أن نُذكِّر بأمثال هؤلاء، إن كانوا أهلاً للذكرى، بما ذكره الحافظ ابن رجب وغيره من أن ولداً لهارون الرشيد كان غلاماً سفيهاً، فلما أقبل رمضان ضاق به ذرعاً وأخذ ينشد:
ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
أتاني صوم الشهر لا كان من
شهر على الشهر لاستعديت قومي على
الشهر فلو كان يُعديني الأنام بقوة
فأصيب بمرض الصرع، فكان يصرع في اليوم أكثر من مرة، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يدرك رمضان الآخر.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إن صنفاً من الناس، يرى في رمضان موسماً حولياً، للموائد الزاخرة بألوان الطعام وصنوفه، وفرصة سانحة للهو والسمر، الممتدين إلى بزوغ الفجر، فصبحهم مثل ليلهم وأجواؤهم سود، وأجفانهم جمر يومض، أتاهم رمضان ومصائب المسلمين جمة، فآمالهم مدٌ وآلامهم جزر، فغاية برِّ هؤلاء بالشهر، أن يكون محلاً للألغاز الرتيبة والدعايات المضللة أو المواعيد المضروبة، لارتقاب ما يستجد، من أفلام هابطة وروائيات مشبوهة، ترمي بشرر كالقصر، لإحراق ما بقي من أصل حشمة وعفاف، أو تدين يستحق التشجيع والإذكاء، ولقد صدق الله:
{ وما أكثرُ النَّاس ولو حرصت بمؤمنين } [يوسف: 103].
{ وكأيِّن من آيةٍ في السموات والأرض يمرُّون عليها وهم عنها مُعرضون } [يوسف: 105].
المستفيدون من رمضان:
أما القلة من الناس وهم كثرة بحمد الله يرون في رمضان شهراً غير هذا كله، وأجلُّ من هذا كله، يرون فيه التهذيب الإلهي بالتقوى والإيثار الجميل، والصبر الكريم، علموا أنه دروس يتعلمها الجيل، لا يجدها المرء في المدارس ولا الجامعات، التي محلُّها تثقيف العقل لا تزكية النفس، وتنمية المعرفة، لا تقوية الصلة بالله إلا من رحم الله.
هؤلاء عباد الله هم الذين يستفيدون من رمضان، وهم الذين يجدون في نهاره لذة الرجولة والحرية الحقة والصبر في الشدائد، هؤلاء وأمثالهم هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان، وتغلق عنهم أبواب النيران، وهم الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفورةٌ لهم ذنوبهم مكفرةً عنهم خطاياهم، سموُّ نفسٍ، وشرف هدفٍ، ونُبْل غاية، وهداية قلب، أولئك في الحقيقة هم الذين تصلح بهم الأوضاع، وتَسْعَدُ بهم المجتمعات، وما أشد حاجة الأمة المسلمة إلى أمثالهم في كل عصر وفي كلِّ مصر.
حال بعض الشباب في رمضان:
الشباب المسلم يصومون، نعم يصومون، ولكن كثيراً منهم يصومون عن القرى فحسب، ويعيشون في رمضان سبهللاً، دون استغلال أو إشغال بما ينفع ويفيد، وإن بقاءهم على هذه الحالة المزرية، يُنشيء مشاكل متوالية على الأسرة والمجتمع، بحيث لا يؤويهم إلا الطرق والممرات، فيزعجون هذا ويوقظون ذاك، ويلحظون هذه ويضايقون تلك، وتكون لهم الطرق بمصراعيها، مأدبة إبليسية، تعلمهم كل بذيْ من القول وقبيح من الفعل، ولسان حالهم يقول: صفدت شياطين رمضان إلا شياطينهم.
إننا بحاجة أيها المسلمين إلى ما يقوِّم أخلاقهم، ويرفع من ثقافتهم ويحدُّ من عبثهم وضياع أوقاتهم سدى، وأن يُقنعوا بأن العطالة موات، وأنهم أحرى الناس في أن يُحشروا مفلسين، لا حصاد لهم إلا البوار والخسران.
حال بعض النساء في رمضان:
وأما المرأة المسلمة يا رعاكم الله، فهي شقيقة الرجل، بل هي نصف المجتمع، ثم هي تلد النصف الآخر، فكأنما هي في الحقيقة مجتمع بأسره، أيكون نشاطها في رمضان مقصوراً على الطهي والتعمق في فنون المآكل وألوان المشارب، أو بأن تكون خرَّاجة ولاَّجة كاسية عارية، تَفتنُ وتُفتن، دون التفات إلى ما يُقربِّها من خالقها بتلاوة قرآن، أو صلاة نفل أو صدقة، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، في بيتها وأسرتها الذي يعترف بريادتها فيه، أنسيتْ أنها مدرسة الطيبي الأعراق، إنه لم يكن نصيب المرأة في العناية بشهر رمضان، بأقلِّ من نصيب الرجل، فهاهن أمهات المؤمنين، يشاركن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فيما يصنع، من صيام وقيام وبذل وجود.
وقد أخرج البخاري في صحيحه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الثلث الأخير من رمضان، شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله » ، وهذه عائشة- رضي الله تعالى عنه- تسائل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: « قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني » .
معاشر المسلمين:
أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك، فإن لله تعالى نفحات من حرمها حرم خيراً كثيراً، وأبشروا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي يقول الله جلّ وعلا: « كل عمل ابن آدم له كفار والصومُ لي وأنا أجزي به » [رواه البخاري].
الجود والصدقة في رمضان:
اعلموا أن شهر رمضان، شهرُ الجود والعطاء، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، وهو أجود بالخير من الريح المرسلة.
وإن من أعظم الجود في رمضان الصدقة الطيبة، بشتى صورها: مالاً وطعاماً ومواساة، والجمع بين الصدقة والصوم موجب من موجبات الجنة، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن في الجنة غُرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونُها من ظهورها » ، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: « لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام » [رواه أحمد والترمذي].
ألا فليكن المسلم السهم الراجح، في العطف على إخوانه في الدين، وفي كفكفة دموعهم، وسدِّ مسغبتهم. وإن الغني الذي لا يُحس بأن عليه للفقراء حقوقاً وواجبات، لقاسي القلب خالٍ من الشفقة، بعيدٌ من رحمة الله: { إنَّ رحمتَ الله قريبٌ مِّن المُحسنين } [الأعراف: 56].
« الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء » .
إنه ليس من المروءة أن تتمتع أيها الغني بملابس الزينة، وأخوك المسلم يحرقه حر الصيف، ويقرصه برد الشتاء، إنه ليس من المروءة أن تمنع المعونة، وتقبض يديك شحاً وبخلاً، ومن أبقت عليهم صروف الحياة ، في شدة من الضيق، وألم من الإعسار، ألا فاتق الله أيها الغني، وكلف نفسك في تحريك جفنيك، وفتح عينيك؛ لترى المحتاجين ماثلين أمامك في غير ما سبيل، تصور أن ذريتك الضعيفة تدور عليهم رحى الأيام، والأيام قلَّب فيصبحون لا حول ولا قوة: { ولْيَخشَ الَّذين لو تركوا من خلفهم ذريَّةً ضِعَافاً خافوا عليهم فلْيتََّقوا الله ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَديداً } [النساء: 9].
اللهم تقبل منا الصيام والقيام، واجعل لنا من هذا الشهر أوفر الحظ والنصيب.
وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى من اتبع هداه إلى يوم الدين
أما بعد:
لقد جاءكم شهر رمضان محيياً بتحايا، تضفي إليه من الجلال جلالاً، ومن البهاء بهاءً، أتاكم رمضان يحمل الجوع والعطش، ترى الطعام أمامك تشتهيه نفسُك، تصلُ إليه يدكُ، ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويُلهبُ الظمأ جوفك، والماءُ من حولك، لا تقدر على الارتواء منه، ويأخذ النعاس بلبك ويداعبُ النوم جفنيك، ويأتي رمضان ليوقظك لسحورك، إنها ترادف حلقات الصبر والمصابرة، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: « الصوم نصف الصبر » [رواه الترمذي، وقال حديث حسن].
فيا سُعد الصائم، كيف ينال الأجر في ظمئه وجوعه عند من لا يظلم مثقال ذرة: { ذلك بأنَّهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكُفَّار ولا ينالون من عَدُوٍّ نَّيلاً إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالح إنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين } [التوبة:120].
لقد جاء رمضان، لينيب الناس فيه إلى ربهم، ويؤمُّوا بيوته، ليعمروها بالتراويح والذكر، تمتلىء بهم المساجد، متعبدين أو متعلمين، والمساجدُ في الأقطار، حفَّلٌ بالعباد صفاً واحداً، متراصة أقدامهم وجباههم على الأرض، سواء الغني والفقير، والوضيع والغطريف، الصعلوك والوزير والأمير، يذلون لله فيعطيهم الله بهذه الذلة عزة على الناس كلهم، إن حَسُن القصد واستُصوب العمل، ولا غرو أيها المسلمون، إن من ذلّ لله أعزّه الله، ومن كان لله عبداً مطيعاً جعله الله بين الناس سيداً، ومن كان مع الله تبارك وتعالى باتباع شرعه والوقوف عند أمره ونهيه كان الله معه بالنصرة والتوفيق والغفران.
وبذلك عباد الله ساد أجدادُنا الناس، وحازوا المجد من أطرافه، وأقاموا دولة ما عرف التاريخ أنبل منها ولا أفضل، ولا أكرم ولا أعدل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، نعم، لم يكونوا خواء، بل إنهم يُذكرون إذا ذُكر رمضان، ويُذكر رمضان إذا ذُكروا، فيه نُزل القرآن على سيد البشر صلى الله عليه وسلم وهو لعمر الله حياة الناس عند الموت، ونورهم عند الظلمة.
شهر الانتصارات والفتوحات:
وفي رمضان نصر الله تبارك وتعالى المؤمنين ببدر وهم أذلة، وسماه يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وفي رمضان فُتحت مكة لنبينا صلى الله عليه وسلم فطهرها من وساوس الوثنية، وأزاح منها كل قوى التقهقر والشرك، وفي رمضان يفتح الله تعالى على خالد بن الوليد في اليرموك وعلى سعد في القادسية، وعلى طارق بن زياد في الأندلس عند نهر لكة، وعلى الملك قطز والظاهر بيبرس ضد جحافل التتار فقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين، وكذا حطين وجلولاء، ورمضان فيه وفيه وفيه، هذا هو رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم وعلو الروح، وعظمة النفس ورضاء الله قبل كل شيء وبعده.
شهر الحب والوئام:
رمضان أيها الناس شهر الحب والوئام فكونوا فيه أوسع صدراً، وأندى لساناً وأبعد عن المخاصمة والشر، وإذا رأيتم من أهليكم زلةً فيه فاحتملوها، وإن وجدتم فُرجةً فسدوها واصبروا عليها، وإن بدأكم أحد بالخصام فلا تقابلوه بمثله، بل ليقل أحدكم: إني صائم، وإلا فكيف يرجو من يمقت ذلك ن يكون له ثواب الصائمين، وهو قد صام عن الطعام الحلال، وأفطر على ما سواه من الحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجةً في أن يدع طعامه وشرابه » [رواه البخاري].
وإن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادتا أن تموتان من العطش فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض ثم ذُكرتا له فدعاهما فأمرهما أن يتقيأ فقاءتا ملء قدح قيحاً وصديداً ولحماً عبيطاً، فقال النبي صلى الله علبيه وسلم: « إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس » [رواه الإمام أحمد].
فلا إله إلا الله ما أعظم هذا الجرم، ولا إله إلا الله ما أعظمه من انتهاك لحرمة الشهر، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
الناس في رمضان:
الناس في رمضان أشتات غير متفقين عن اليمين وعن الشمال عزين، فمن الناس من لا يرى في رمضان أكثر من كونه حرماناً لا فائدة منه، وتقليداً تعبدياً، لا مبرر له، فهم عازمون على الإفطار فيه، مجاهرين بذلك أو مسرين، فهؤلاء حمقى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً، وظنوا أن في الصوم كبتاً للحرية، التي تعني بداهة: انطلاق المرء المحموم وراء أهوائه وشهواته، يُعبُّ منها دون حد أو قيد، كلا عباد الله فإن هذه حريةٌ مغشوشة، وما هي إلا الفوضى أولاً، والعبودية الذليلة للجسد آخراً.
والحق عباد الله أن الحرية المادية هي تمام العبودية، وتحقيق العبودية لله وحده هي تمام الحرية والمسلم الصادق عباد الله إنما هو حُرُّ الروح ولو أطبقت عليه الجدران، أو عاش في أرض قفر، هو حرٌّ ولو كُبِّل بالحديد وجلد بالسياط، وهذه لعمر الله هي الحرية الحقة، التي تليق بكرامة بني آدم، وأين منها حرية الأشباح والجسوم الخاوية:
{ أفَمَن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلالٍ مُّبين } [الزمر:22].
وإن من الناس عباد الله من لا يرى في رمضان إلا جوعاً لا تتحمله أعصاب بطنه، وعطشاً لا تقوى عليه مجاري عروقه، قد سئم ذكر رمضان، دخولهُ ثقل عليه، وتمامه عناء ووثاقاً مشدوداً أمام رغباته وشهواته، فهو يصومه على مضض فهذا وأمثاله ممن فقدوا لذة الإيمان وسرور الصالحين بالتسليم للخالق جلّ شأنه في أمره وحكمه: { وربُّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سُبحان الله وتعالى عمّا يُشركون } [القصص: 68].
ولا يسعنا إلا أن نُذكِّر بأمثال هؤلاء، إن كانوا أهلاً للذكرى، بما ذكره الحافظ ابن رجب وغيره من أن ولداً لهارون الرشيد كان غلاماً سفيهاً، فلما أقبل رمضان ضاق به ذرعاً وأخذ ينشد:
ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
أتاني صوم الشهر لا كان من
شهر على الشهر لاستعديت قومي على
الشهر فلو كان يُعديني الأنام بقوة
فأصيب بمرض الصرع، فكان يصرع في اليوم أكثر من مرة، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يدرك رمضان الآخر.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إن صنفاً من الناس، يرى في رمضان موسماً حولياً، للموائد الزاخرة بألوان الطعام وصنوفه، وفرصة سانحة للهو والسمر، الممتدين إلى بزوغ الفجر، فصبحهم مثل ليلهم وأجواؤهم سود، وأجفانهم جمر يومض، أتاهم رمضان ومصائب المسلمين جمة، فآمالهم مدٌ وآلامهم جزر، فغاية برِّ هؤلاء بالشهر، أن يكون محلاً للألغاز الرتيبة والدعايات المضللة أو المواعيد المضروبة، لارتقاب ما يستجد، من أفلام هابطة وروائيات مشبوهة، ترمي بشرر كالقصر، لإحراق ما بقي من أصل حشمة وعفاف، أو تدين يستحق التشجيع والإذكاء، ولقد صدق الله:
{ وما أكثرُ النَّاس ولو حرصت بمؤمنين } [يوسف: 103].
{ وكأيِّن من آيةٍ في السموات والأرض يمرُّون عليها وهم عنها مُعرضون } [يوسف: 105].
المستفيدون من رمضان:
أما القلة من الناس وهم كثرة بحمد الله يرون في رمضان شهراً غير هذا كله، وأجلُّ من هذا كله، يرون فيه التهذيب الإلهي بالتقوى والإيثار الجميل، والصبر الكريم، علموا أنه دروس يتعلمها الجيل، لا يجدها المرء في المدارس ولا الجامعات، التي محلُّها تثقيف العقل لا تزكية النفس، وتنمية المعرفة، لا تقوية الصلة بالله إلا من رحم الله.
هؤلاء عباد الله هم الذين يستفيدون من رمضان، وهم الذين يجدون في نهاره لذة الرجولة والحرية الحقة والصبر في الشدائد، هؤلاء وأمثالهم هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان، وتغلق عنهم أبواب النيران، وهم الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفورةٌ لهم ذنوبهم مكفرةً عنهم خطاياهم، سموُّ نفسٍ، وشرف هدفٍ، ونُبْل غاية، وهداية قلب، أولئك في الحقيقة هم الذين تصلح بهم الأوضاع، وتَسْعَدُ بهم المجتمعات، وما أشد حاجة الأمة المسلمة إلى أمثالهم في كل عصر وفي كلِّ مصر.
حال بعض الشباب في رمضان:
الشباب المسلم يصومون، نعم يصومون، ولكن كثيراً منهم يصومون عن القرى فحسب، ويعيشون في رمضان سبهللاً، دون استغلال أو إشغال بما ينفع ويفيد، وإن بقاءهم على هذه الحالة المزرية، يُنشيء مشاكل متوالية على الأسرة والمجتمع، بحيث لا يؤويهم إلا الطرق والممرات، فيزعجون هذا ويوقظون ذاك، ويلحظون هذه ويضايقون تلك، وتكون لهم الطرق بمصراعيها، مأدبة إبليسية، تعلمهم كل بذيْ من القول وقبيح من الفعل، ولسان حالهم يقول: صفدت شياطين رمضان إلا شياطينهم.
إننا بحاجة أيها المسلمين إلى ما يقوِّم أخلاقهم، ويرفع من ثقافتهم ويحدُّ من عبثهم وضياع أوقاتهم سدى، وأن يُقنعوا بأن العطالة موات، وأنهم أحرى الناس في أن يُحشروا مفلسين، لا حصاد لهم إلا البوار والخسران.
حال بعض النساء في رمضان:
وأما المرأة المسلمة يا رعاكم الله، فهي شقيقة الرجل، بل هي نصف المجتمع، ثم هي تلد النصف الآخر، فكأنما هي في الحقيقة مجتمع بأسره، أيكون نشاطها في رمضان مقصوراً على الطهي والتعمق في فنون المآكل وألوان المشارب، أو بأن تكون خرَّاجة ولاَّجة كاسية عارية، تَفتنُ وتُفتن، دون التفات إلى ما يُقربِّها من خالقها بتلاوة قرآن، أو صلاة نفل أو صدقة، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، في بيتها وأسرتها الذي يعترف بريادتها فيه، أنسيتْ أنها مدرسة الطيبي الأعراق، إنه لم يكن نصيب المرأة في العناية بشهر رمضان، بأقلِّ من نصيب الرجل، فهاهن أمهات المؤمنين، يشاركن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فيما يصنع، من صيام وقيام وبذل وجود.
وقد أخرج البخاري في صحيحه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الثلث الأخير من رمضان، شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله » ، وهذه عائشة- رضي الله تعالى عنه- تسائل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: « قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني » .
معاشر المسلمين:
أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك، فإن لله تعالى نفحات من حرمها حرم خيراً كثيراً، وأبشروا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي يقول الله جلّ وعلا: « كل عمل ابن آدم له كفار والصومُ لي وأنا أجزي به » [رواه البخاري].
الجود والصدقة في رمضان:
اعلموا أن شهر رمضان، شهرُ الجود والعطاء، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، وهو أجود بالخير من الريح المرسلة.
وإن من أعظم الجود في رمضان الصدقة الطيبة، بشتى صورها: مالاً وطعاماً ومواساة، والجمع بين الصدقة والصوم موجب من موجبات الجنة، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن في الجنة غُرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونُها من ظهورها » ، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: « لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام » [رواه أحمد والترمذي].
ألا فليكن المسلم السهم الراجح، في العطف على إخوانه في الدين، وفي كفكفة دموعهم، وسدِّ مسغبتهم. وإن الغني الذي لا يُحس بأن عليه للفقراء حقوقاً وواجبات، لقاسي القلب خالٍ من الشفقة، بعيدٌ من رحمة الله: { إنَّ رحمتَ الله قريبٌ مِّن المُحسنين } [الأعراف: 56].
« الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء » .
إنه ليس من المروءة أن تتمتع أيها الغني بملابس الزينة، وأخوك المسلم يحرقه حر الصيف، ويقرصه برد الشتاء، إنه ليس من المروءة أن تمنع المعونة، وتقبض يديك شحاً وبخلاً، ومن أبقت عليهم صروف الحياة ، في شدة من الضيق، وألم من الإعسار، ألا فاتق الله أيها الغني، وكلف نفسك في تحريك جفنيك، وفتح عينيك؛ لترى المحتاجين ماثلين أمامك في غير ما سبيل، تصور أن ذريتك الضعيفة تدور عليهم رحى الأيام، والأيام قلَّب فيصبحون لا حول ولا قوة: { ولْيَخشَ الَّذين لو تركوا من خلفهم ذريَّةً ضِعَافاً خافوا عليهم فلْيتََّقوا الله ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَديداً } [النساء: 9].
اللهم تقبل منا الصيام والقيام، واجعل لنا من هذا الشهر أوفر الحظ والنصيب.
وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.